العبد لضعفه ولعجزه لا يدري ما وراء حجب الغيب ،
فهو لا يرى إلا ظواهر الأمور ،
أما الخوافي فعلمها عند ربي ،
فكم من محنة صارت منحة ، وكم من بلية أصبحت عطية ،
فالخير كامن في المكروه . أبونا آدم أكل من الشجرة وعصى ربه
، فأهبطه إلى الجنة ، فظاهر الأمر أن آدم ترك الأحسن والأصوب
، ووقع عليه المكروه ، ولكن عاقبة أمره خير عظيم وفضل جسيم ؛
فإن الله تاب عليه وهداه واجتباه وجعله نبيا وأخرج من صلبه
رسلاً وأنبياء وعلماء وشهداء وأولياء ومجاهدين وعابدين ومنفقين ،
فسبحان الله كم بين قوله تعالى : ( اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً ) ،
وقوله : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) ؛ فإن حاله الأول سكن وأكل وشرب ،
وهذا حال عامة الناس الذين لاهمّ لهم ولا طموحات ، وأما حاله بعد الاجتباء
والاصطفاء والنبوة والهداية فحال عظيمة ، ومنزلة كريمة ، وشرف باذخ .
وهذا داود عليه السلام ارتكب الخطيئة فندم وبكى ، فكانت في حقه نعمة من أجلّ
النعم ؛ فإنه عرف ربه معرفة العبد الطائع الذليل الخاشع المنكسر ، وهذا مقصود
العبودية ، فإن من أركان العبودية تمام الذل لله عز وجل .وقد سئل شيخ الإسلام ابن
تيمية عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( عجباً للمؤمن لا يقضي الله له شيئاً إلا كان
خيراً له ) – رواه أحمد في مسنده - هل يشمل هذا قضاء المعصية على العبد ؟
قال :
نعم ، بشرطها من الندم والتوبة والاستغفار والانكسار . فظاهر الأمر في تقدير
المعصية مكروه على العبد ، وباطنه محبوب إذا اقترن بشرطه . وخيرة الله لنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرة باهرة ؛ فإن كل مكروه وقع له صار محبوباً
مرغوباً ، فإن تكذيب قومه له ومحاربتهم إياه كان سبباً في إقامة سوق الجهاد ومناصرة الله
والتضحية في سبيله ، فكانت تلك الغزوات التي نصر الله فيها رسوله ، وفتح عليه ،
واتخذ فيها من المؤمنين شهداء جعلهم من ورثة جنة النعيم ، ولولا تلك المجابهة من
الكفار لم يحصل هذا الخير الكبير والفوز العظيم ، ولما طُرد صلى الله عليه وسلم من
مكة كان ظاهر الأمر مكروهاً ، ولكن في باطنه الخير والفلاح والمنة ، فإنه بهذه
الهجرة أقام صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ووجد أنصاراً ، وتميز أهل الإيمان من أهل
الكفر ، وعُرف الصادق في إيمانه وهجرته وجهاده من الكاذب . ولما غلب المسلمون في
أحد كان الأمر مكروهاً في ظاهره شديداً على النفوس ، لكن ظهر له من الخير وحسن
الاختيار ما يفوق الوصف ، فقد ذهب من بعض النفوس العُجب بانتصار يوم بدر والثقة
بالنفس والاعتماد عليها ، واتخذ الله من المسلمين شهداء أكرمهم بالقتل كحمزة
سيد الشهداء ، ومصعب سفير الإسلام ، وعبدالله بن عمرو والد جابر الذي كلمه الله ،
وغيرهم ، وامتاز المنافقون بغزوة أحد وفُضح أمرهم وكشف الله أسرارهم ، وهتك
أستارهم .
إن من عرف حسن اختيار الله لعبده هانت عليه المصائب ، وسهلت عليه المصاعب ،
وتوقع اللطف من الله واستبشر بما حصل ؛ ثقةً بلطف الله وكرمه وحسن اختياره ،
حينها يذهب حزنه وضجره وضيق صدره ، ويسلم الأمر لربه جل في علاه ، فلا
يتسخط ولا يعترض ولا يتذمر ، بل يشكر ويصبر حتى تلوح له العواقب وتنقشع عنه سحب
المصائب.
..................
للشيخ عائض القرني ..,
تحيتي ..,
الموضوع الاصلي :
خيره الله !! المصدر :
منتديات ميامي