|
ملايين المعلومات تتكدس في رأسك ..تحتاج لوقت من الصمت لكي ترتب أولوياتك
|
العديد من الدراسات والبحوث التي تتم في مختلف البلدان تؤكد أن الملايين في جميع أنحاء العالم يعانون في الوقت الحالي من التشتت الذهني، والتفكير المتسارع المتشابك المتوتر، والقلق المتواصل حتى أثناء النوم؛ لذا كانت النصيحة من الخبراء النفسيين بقليل من "الصوم عن الكلام" والانعزال والتأمل والاسترخاء يوميا؛ حيث يختلي الإنسان بنفسه ليفكر ويتأمل بهدوء، مراعيا "الفراغ" أو فاعلا "لا شيء"؛ ليطهر نفسه ويريح عقله الذي يعاني من الازدحام، وتكدس المعلومات التي يتلقى منها الملايين بمقياس الكمبيوتر في الدقيقة الواحدة! ويأتي الصوم في اللغة محتويا على معنى الامتناع عن الكلام؛ فكل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم وفقا لما ورد عن أبي عبيدة في "مختار الصحاح"، و"الصوم" -كما في "المعجم الوجيز"- هو "الإمساك عن أي فعل أو قول كان". وقد يجيء "الصوم" بمعنى "الصمت" بشكل مباشر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بشأن التعبير القرآني: "إني نذرت للرحمن صوما" أي صمتا. ولفوائد وآثار "الصوم عن الكلام" حضور واسع في الحضارات والفلسفات والأديان، كما تعرّض الدين الإسلامي كثيرًا لكل ما يخص الكلام والصمت، لكن مع التفرقة بين "الإمساك عن الكلام" كسلوك قويم، و"الصوم عن الكلام تعبدا" كإحدى البدع. ولم يختف "الإمساك عن الكلام" خلف غيوم عصر الضوضاء الحديث؛ فبعض الحركات والفلسفات في الشرق الأقصى والعالم الغربي وسائر بقاع العالم قد تنبهت منذ وقت مبكر إلى مزايا هذا الصمت الاختياري وآثاره الإيجابية على صحة الفرد. وعلى سبيل المثال فقد أذاعت بعض الصحف ومواقع الإنترنت منذ بضعة أشهر أنباء عن ظهور حركة في الولايات المتحدة تسمى حركة "الصوم عن الكلام"؛ ترفع شعار "قضاء فترة من الصمت كل يوم"؛ وذلك من أجل "توفير الراحة النفسية، وبلورة التفكير وتجديده وتنظيمه، ومساعدة الفرد على ترتيب أولوياته الحياتية بوضوح". صم.. وأرح نصف دماغك
|
توقف عن الكلام تعط لدماغك فرصة للراحة
|
ويرى خبراء الصحة النفسية وفقا لـموقع الحصن النفسي أن ميكانزيم عمل الصوم عن الكلام مع الاسترخاء يتلخص في توجيه التركيز على صورة ساكنة أو شيء رتيب لتقوية سلطة النصف الأضعف من الدماغ المسئول عن الخيالات (النصف الأيمن عادة)، وإراحة النصف الأقوى من الدماغ (الأيسر) المسئول عن العقل والمنطق والتحليل. ويوضح الدكتور "سامي محمود" أستاذ الطب النفسي في كتابه "القلق.. أسبابه وعلاجه" أن فترة الاسترخاء الذهني والعضلي؛ حيث يجلس الإنسان صامتا وحيدا في جو هادئ؛ هي الفترة التي ينفتح فيها العقل الواعي على العقل الباطن؛ فتذوب عوامل الكبت ومظاهر القلق، ويتخلص الإنسان من أي نازع خفي يكون مستترا تحت الشعور دون وعي منه. وحول حاجة الإنسان للصوم عن الكلام والخلاص المؤقت من الضغوط الاجتماعية والنفسية يقول أستاذ الاجتماع الدكتور عبد الفتاح بدّور في حديثه لنا: لا شك أن عصرنا الحديث بتشابكاته وتعقيداته يدفع العقل الإنساني إلى البلبلة، والنفس إلى السأم، والبدن إلى التعب والكسل. فمن حق الفرد أن ينفرد بذاته ولو لوقت قصير يوميا؛ حيث يصمت أو يرتاح سلبيا، أو يتأمل نفسه وملكوت الله، أو يحاسب ذاته قبل أن يخلد إلى النوم. إنها لحظات اختلاء واسترخاء تبدو قصيرة من حيث الوقت، ولكن نفعها جليل؛ حيث تساعد المرء في التخلص من الضغوط الاجتماعية والنفسية، وتعينه على تجديد تفكيره ونشاطه وحماسه الروحي، وتنمي العناصر الذهنية لديه ومواضع السداد والحكمة. وللصوم عن الكلام تاريخ طويل؛ فبالعودة إلى الفراعنة نجد أن "الإنسان الصامت" في مصر القديمة هو الأكثر حكمة، وهو الذي يحظى بحب وعطف ومساندة الملك دائما، وينجو من المهالك والمصائب. ويأتي على النقيض تماما الإنسان "الثرثار"؛ فهو تافه وأحمق، وبالتالي هو من الهالكين المطرودين خلف قافلة الرحمة الملكية! أما العرب فإنهم رفعوا أيضا من قيمة "الصوم عن الكلام" أو "الصمت النبيل"؛ فيقول أحد الأمثال العربية: "إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب"، ويقول آخر: "خير الكلام ما قل ودل"، ويقول الشاعر: "الصمت زين والسكوت سلامة". كذلك فقد استخدمت الحضارات الآسيوية "الصوم عن الكلام" و"الاسترخاء" في أساليب العلاج وخاصة في إطار اليوجا. "فلتقل خيرا أو لتصمت" وبالنظر إلى التعاليم الإسلامية نجد الحديث النبوي الشريف يأمر المؤمن بوضوح بأن يقول خيرا أو "ليصمت"، ويحذر الناس من "حصائد ألسنتهم"، ويؤكد قوله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} على ضرورة أن يتفكر الإنسان جيدا فيما يقول. وأشار الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى درجات الصوم بقوله: "صوم القلب خير من صيام اللسان، وصوم اللسان خير من صيام البطن". أما بخصوص ما ورد في القرآن الكريم من توجيه الله تعالى سيدنا زكريا عليه السلام إلى الصوم عن الكلام مع البشر {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}؛ وتوجيه السيدة مريم إلى الصوم عن الكلام {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}؛ واعتقاد البعض بإجازة "الصوم عن الكلام تعبدا" على سبيل التأسي بقصة سيدنا زكريا والسيدة مريم.. يوضح فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في فتوى له أن "الصوم عن الكلام تعبدا بدعة عملية، والبدعة العملية هي التي يخترع المرء فيها عبادة من عنده لم يشرعها الله ولا رسوله، أو يضيف إلى العبادة المشروعة ما ليس منها". أما لو كان الشخص يترك الكلام امتثالا لأمر الرسول "فليقل خيرا أو ليصمت" فإن ذلك يكون عبادة جليلة؛ فهلم نحيي تلك العبادة في شهر رمضان. |